المقال:
عالم تعليمي وتعلّمي جديد: نحو مأسسة التعليم والتعلّم عن بعد في ظلّ تجربته الآنيّة
د. سمير مجادلة
أسئلة كثيرة أشغلت تفكيري منذ بدايات تفشّي جائحة الكورونا، وما زالت، فالجائحة لم تنته بعد، ولا أحد يعرف متى وكيف ستكون النهايات.
هذه الأسئلة متعدّدة المجالات وجدت لها حيّزا في المجال الصحّيّ والمجال الاقتصادي والمجال الاجتماعي وحتّى في المجال السياسي، ولكن ما يعنيني في هذه المقالة هو المجال التعليمي وأرجو أن أنقل لكم من خلالها تجربتي قصيرة المدى في سياق التعليم والتعلّم عن بعد المتزامن منذ بدايات تعطيل الدراسة في الكلّيّة.
أذكر وفي محاضرتي الأولى للفصل الدّراسي الثاني لهذا العام الدراسي2019/2020، أنّني أنهيت المحاضرة بالتمنّي لأن نلتقي في الأسبوع التالي، في اللقاء الثاني، وكأنّني كنت على يقين بأنّ ذلك لن يحدث.
وفعلا هو ما حدث، بعد يوم واحد فقط، تمّ الإعلان عن تعطيل الدراسة إلى أجل غير مسمّى.
لحظات من الارتباك عايشتها إذ لم يكن بإمكاني تحديد أبعاد هذا التعطيل كما أنّني وقفت حائرا بشعور من لا حول له ولا قوة.
إلى متى؟ ما هي ملامح سيرورة التعليم والتعلّم في الأثناء؟ والسؤال الأثقل وزنا: هل بإمكاني التغلّب على الواقع التعليمي الجديد؟
بدأت الرسائل الواردة من طلبتي عبر الواتساب والبريد الإلكتروني وهي تعجّ بالأسئلة الّتي لا تقلّ وزنا ولا أهمّيّة عن تلك الّتي راودتني، كلّ ذلك خلال ساعات قليله، إجاباتي لم تكن مكتملة الملامح، وفي بعض الأحيان أنصاف الإجابات.
سريعا وصلتنا عبر البريد الإلكتروني رسائل إدارة الأكاديمية الّتي تحاول التعامل مع الواقع المتقلّب والمتغيّر لحظة بعد أخرى، وهو كذلك حتّى ساعة كتابة هذا المقال.
على الصعيد الشخصي تغيّرت طريقة تدريسي لمحاضراتي رأسا على عقب، كما وتغيّرت طريقة مشاركتي في منتديات ذات صله بالواقع الوظيفي بالكلّيّة جذريّا. الواقع الجديد حتّم عليّ وأنا من كنت أدرّس بصورة وجاهيه في قاعة التدريس الدافئة المغمورة بالابتسام تارة والضحكات أخرى والتفاعل النشط بيني وبين طلّابي وبينهم أنفسهم، التجوّل في قاعة التدريس، تعزيز المنتوج الطلّابي والدعم الاجتماعي والنفسي المتبادل، كلّ ذلك وأكثر كان، وبصورة مفاجئة ومرة واحدة، كلّ ذلك اختفى وكأنّه لم يكن، وحقيقةً يا ليت هذا الاختفاء لم يكن.
ما السبيل إلى التحرّر من هذا القيد!؟
الإجابة أعرفها أنا ويعرفها زملائي ويعرفها طلّابي: التعليم والتعلّم عن بعد متزامنًا وغير متزامن وفوريّا
بصراحة هو حلّ فرض على جهاز التربية والتعليم ولم يكن اختيارا؛ من هنا تبدأ المشكلة؛ فبسرعة البرق تبنّينا تطبيق zoom، ولكنّ هذا الحل يرافقه الخوف والقلق من الفشل في تطبيق هذا النظام التعليمي الجديد.
هل نحن متمكّنون من استخدام تكنولوجيا التعليم والتعلّم عن بعد المتزامن طلبة ومحاضرين؟
ماذا مع المشاركة الطلّابية في أثناء اللقاء المتزامن عن بعد؟
ماذا مع أثر الأجواء المشحونة والخوف ممّا يخبّئه المستقبل على تركيز وتفاعل الطلّاب؟
الكثير من الطالبات (أغلب طلّابنا إناث) متزوّجات ومرتبطات بالتزامات أسريّة فهل سيؤثّر ذلك سلبا على سيرورة التعليم والتعلّم عن بعد؟
هذا القلق راودني وأعتقد أنّه راود الكثير من زملائي من بداية تبنّي أساليب التدريس البديلة والمتمثّلة في التعليم والتعلّم عن بعد: الكورونا وما أحدثته من آثار صحّيّة واجتماعية واقتصادية أوّلا وقبل كلّ شيء، أم أنّ التعليم والتعلّم ما زالا في مقدّمة اهتمامات طلّابنا وطالباتنا؟
بعد شهر من التجربة الفاعلة في استخدام تكنولوجيا التعليم والتعلّم عن بعد وعلى عكس التوقّعات والتخوّف والقلق ممّا ستكون عليه نتائج هذه التجربة يمكنني الاستنتاج:
بالنسبة للتمكّن من استخدام تكنولوجيا التعليم والتعلّم عن بعد فإنّ الحاجة تنزّل منزلة الضرورة، وهو ما لم أتوقّعه من نفسي فخلال فترة زمنية قصيرة أصبحت مشاركا فاعلا في منتديات تخصّ عملي في الكلّيّة ومضيفا لتطبيق zoom فيما أعدّه من لقاءات لطلّابي وطالباتي.
تميّزت هذه اللقاءات بحضور كامل على الأغلب للطلّاب في لقاءات التعليم والتعلّم عن بعد.
كما أنّ المشاركة والمتابعة والقيام بالمهمّات تميّزت بالإيجابية.
وللحقيقة أقول إنّني أتابع الحضور والمشاركة في بداية اللقاء وخلاله وفي نهايته، هذا إلى جانب إشراك وتفاعل الأغلبيّة الساحقة ممّن يحضرون اللقاء.
وللتأكّد من أنّ ما ذكرته هو ما يميّز طبيعة عمل زملائي الآخرين في استخدامهم للتعليم والتعلّم عن بعد وجدت أنّ استنتاجاتي تتقاطع مع استنتاجاتهم.
والسؤال ما التفسير لهذه الظاهرة؟
يمكن تفسير ذلك ربما بشعور الطالب والمحاضر بالتحرّر من قيود منظومة التعليم الرسمية الّتي تتميّز باتّباع التعليمات والأنظمة وعدم تجاوزها، ونحن هنا أمام ثقافة تنظيمية ومجتمعية جديده تتطلّب إجراء أبحاث في هذا السياق.
كما يمكن تفسير ذلك ربما بتقاسم الأدوار من وجهة نظر الطلّاب والطالبات فهذه هي ساحتهم-العالم الافتراضي- وفيها يقضون ساعات من نهارهم وليلهم كما أنّ هذه السيرورة تشعرهم بالقيمة المضافة لدورهم بصفتهم متمكّنين من الاستخدام الناجع لهذه التكنولوجيا.
كما يمكن تفسير ذلك ربما باستبدال الطرفين المحاضر والطلّاب والطالبات أجواء القلق والتوتّر والخوف بأجواء فيها الأمن والأمان وذلك من خلال وجودهم بصحبة أقرانهم.
كما يمكن تفسير ذلك ربما بأنّ هذا اللقاء بمنزلة لقاء اجتماعي؛ تماما كما كان يلتقي الطلّاب والطالبات في قاعات التدريس وفي المكتبة وأروقة الكلّيّة وهناك يتبادلون حكاياتهم بمفرحها ومحزنها، وهو ما لمسته من خلال ما عبّر عنه الطلّاب والطالبات في أثناء اللقاءات المتزامنة عن بعد.
وربما يمكن تفسير ذلك أيضا بما يضيفه العمل الجماعي لإنجاز المهمّات وعرضها في أثناء اللقاء، ومنها القواسم المشتركة أكاديميا فيما بينهم، وقد ظهر ذلك جليا في درجة دافعيّتهم لإتمام وإنجاز عرض المهمّة.
استمرار التجربة سيفضي بنتائج واستنتاجات قادمه بما يخصّ كلا الشريكين الطالب والمحاضر ومكان كلّ منهما في هذا العالم الافتراضي.
ربما نحن أمام عالم تعليمي وتعلّمي جديد يتمّ رسم ملامحه في أثناء كتابة هذا المقال وهو ما يستدعي منّا إعادة التفكير والاستعداد للتأقلم مع ملامح هذا العالم.
وفي رأيي علينا في الكلّيّة إقامة طاقم متخصّص لإعداد برنامج تطبيقي يتجاوب مع متطلّبات هذا العالم وذلك من أجل تأهيل طلّاب وطالبات الكلّيّة وقد تزوّدوا بآليّات التفاعل مع هذا العالم.
نعم أعرف أنّ التعليم والتعلّم عن بعد من أساسيّات منظومة التعليم في الكلّيّة؛ ولكن ما نشهده هذه الأيّام أبعد من ذلك وما يميّزه إعادة النظر في كلّ المفاهيم والبنى وسيرورة التربية والتعليم.
وفي النهاية قدّمت في هذه المقالة بعضا من انطباعاتي لما تشهده تجربتي القصيرة ولكن المفيدة والغنيّة في مجال التعليم والتعلم عن بعد متزامن؟
علما أنّ هناك صعوبات قد واجهتني إلّا أنّني سأفرد لها مقالة أخرى عمّا قريب.